قديما قال الشاعر:
السيف أصدق إنباء من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعب
ويمكننا اليوم أن نقول:
الرقم أكثر إثباتا من الكتب *** في عده الفصل بين الصدق والكذب
فلقد أصبح للإحصائيات والأرقام في عصرنا الحاضر مكانة لا تضاهى، فكل قول أو ادعاء عضدته الإحصائيات والأرقام والنسب والبيانات فهو ثابت موثق وإلا فلا. ولسنا هنا في مجال إثبات أو دحض هذا المعطى الذي أصبح شبه مقدس، وإنما نريد استعماله في مجال قد يبدو عصيا على الترقيم والإحصاء ألا وهو موضوع الإرهاب.لقد أصبح للإرهاب لون كاد يكون رديفا ومرادفا له هو الإسلام والعروبة والشرق أوسطية، فكل حادثة إرهابية في أصقاع العالم الأربع يصبغها الإعلام والسياسة بهذه الصبغة حتى يثبت العكس، وريثما يثبت العكس تترسخ في أذهان الناس صورة قد يستعصي على الإعلام محوها لو أراد، فكيف وهو لا يريد محوها بل تثبيتها؟
"
8% فقط من السلفية الجهادية قدموا من مدارس دينية داخلية في حين أن 78% منهم التحقوا بالشبكات الجهادية في غالب الأحيان في بلدان أوروبية وأميركية، بسبب الضغوط النفسية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والإعلامية التي يتعرضون لها
"
الإسلام ليس دافعا للإرهاب
قامت باحثة أميركية في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا هي نيكول أركو الدكتورة في العلوم السياسية التي عاشت سنتين في إسرائيل والضفة الغربية وغزة، بإعداد دراسة عنوانها "القنابل البشرية: إعادة النظر في الدين والإرهاب"، فتأكد لديها بلغة الأرقام أن "هناك أكثر من عشرة آلاف مدرسة دينية في باكستان لم نجد من خريجيها إلا انتحاريين اثنين فقط: أحدهما في أفغانستان، والآخر ضد غزو العراق".وهذا ما يفند الحملة الإعلامية التي ترى في كل مسلم انتحاريا محتملا، وقد سبق للكاتبة الإيطالية الراحلة أوريانا فلاتشي أن قالت في كتابها "قوة العقل": "كل العرب والمسلمين في أفضل أحوالهم متطرفون، وفي أسوئها مجموعة كبيرة من أمثال أسامة بن لادن، فيجب إعلان الحرب عليهم وعدم الانجرار إلى التمييز بين أحدهم والآخر، كلهم متطرفون وقتلة ومتخلفون وأميون".كما ذهب الكاتب الفرنسي اللبناني الأصل أنطوان صفير في كتابه "شبكات الإسلام" إلى أن كل "مسلم هو إسلامي بطبعه، وكل إسلامي سيصبح إرهابيا بالضرورة".وأكدت تلك الدراسة الجادة أن تحقيقات ميدانية أجريت على 172 عضوا في السلفية الجهادية العالمية أثبتت أن 8% منهم فقط قدموا من مدارس دينية داخلية في إندونيسيا وماليزيا، وأن 78% منهم التحقوا بالشبكات الجهادية في بلدان غير وطنهم، وفي غالب الأحيان في بلدان أوروبية وأميركية، بسبب الضغوط النفسية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والإعلامية التي يتعرضون لها.
واستنتجت الكاتبة بناء على ذلك أن "الإسلام ليس دافعا للإرهاب، لكن بعضهم يستلهمونه ويبررون أفعالهم العنيفة بخطاب إسلامي"، كما أكدت أن الدافع الرئيسي للإرهاب هو "الشعور بالإهانة" وليس الإسلام.ومن المعلوم أن العنف قد يستلهم أو يبرر بخطابات أخرى ثورية دينية وغير دينية، كما هو الشأن سابقا وحاليا وربما لاحقا بالنسبة لمختلف الحركات اليسارية واليمينية في مختلف أنحاء الدنيا. وهذا ما يجعل نتيجتها الأساسية تتلخص في أن "الاستلهام ليس هو السببية".فالأسباب متنوعة والاستلهام الفكري والثقافي للمقاومة والعنف متعدد لكنه محلي في مجمله، أما الاستلهام بصفة عامة فيستند عبر التاريخ إلى ما يجمع الناس ويعبئهم من عقيدة أو فكرة أو وطنية أو ما أشبه ذلك. الحركات الثورية تستلهم عقائد الناس وتتبنى قضاياهم وليس العكس، وعلى سبيل المثال فإن تنظيم القاعدة لم يؤثر في المسلمين كما ذهب إليه كثير من الكتاب وصناع القرار في الغرب، ولكنه تبنى قضاياهم بغض النظر عن كون طريقة هذا التبني سليمة أم لا.وحتى بالنسبة إلى بعض منظري العنف فإن "الخصوم" لا يستهدفون لمرجعيتهم الدينية والفكرية، ولكن لمواقفهم السياسية والميدانية.
"
الحملة الحالية ضد "الإرهاب" حملة أيديولوجية وفكرية بامتياز، والخصم الأساسي فيها هو الإسلام والمسلمون، وبعض مؤسساتهم الفكرية والاجتماعية
"
حملة أيديولوجية وفكرية بامتياز
كما أن أعمال العنف والإرهاب ليست من ابتداع منطقة أو أتباع دين أو جنس أو فكر معين، بل ربما يكون لمحاربي العنف و"الإرهاب" قصب السبق في ذلك، فقد أكد محمد بن عبد الله السلومي في كتابه "القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب" -بلغة الأرقام كذلك- أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية كانت وراء العديد من الأعمال الإرهابية، تدريبا أو رعاية أو تخطيطا أو دعما مباشرا أو غير مباشر وخصوصا في المنطقة العربية.فقد دبرت حادثة تفجير سيارة مفخخة في بيروت الغربية على أيدي كتائب خاصة في مارس/آذار 1985 أسفرت عن مقتل 92 شخصا وإصابة 200 بجروح.كما دبرت تفجيرا آخر في سوريا عام 1986 أدى إلى مقتل 150 شخصا، وتورطت في الفضائح المرتكبة من قبل منظمة "الكونترا" في نيكاراغوا، فضلا عن تدبيرها لعدة انقلابات وأعمال شغب في جهات متعددة من العالم وخصوصا في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا.
ويذهب العديد من الباحثين إلى أن الحملة الحالية ضد "الإرهاب" حملة أيديولوجية وفكرية بامتياز، وإلى أن الخصم الأساسي فيها هو الإسلام والمسلمون، وبعض مؤسساتهم الفكرية والاجتماعية. فقد أكد الباحث الأميركي ويليام فيشر في دراسة عنوانها "في الحرب على الإرهاب كل الأسماء متعادلة" أن الهدف من وراء نزعة "رهاب الإسلام التي عمت الولايات المتحدة منذ الحادي عشر من سبتمبر هو تخويف المسلمين الأميركيين ودفعهم لهجر أحد أركان الإسلام الأساسية وهو إعطاء الزكاة للفقراء".فقد كانت الاعتقالات عشوائية وتمييزية عنصرية، بحيث شملت آلاف الرجال والنساء لا لشيء إلا لكونهم "مشابهين لسكان الشرق الأوسط، وإرسالهم للسجون دون اتهام بأية جرائم لها صلة بالإرهاب، أو تمكينهم من دفاعهم القانوني".ولتأكيد ما ذهب إليه ويليام فيشر بلغة الأرقام ذكرت صحيفة الشرق الأوسط في عددها ليوم 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2002 أن السفير الأميركي في مصر طالب بإغلاق خمس وعشرين جمعية دينية، بدعوى علاقتها بالقاعدة! والحقيقة أن طلب إغلاقها راجع إلى كونها قامت بدور قوي في تفعيل مقاطعة المنتجات الأميركية.
الإرهاب إسلامي أم غربي؟
أما التركيز الإعلامي الغربي وتضخيمه لما يسمى الإرهاب الإسلامي، فقد أثبتت الأرقام الصادرة من مؤسسات غربية رسمية هامة أن ذلك مقصود، وإن كان غير صحيح.ففي مارس/آذار 2007 أصدرت منظمة الشرطة الأوروبية تقريرا عن وضع واتجاه الإرهاب في الاتحاد الأوروبي، جاء فيه أنه في سنة 2006 حدثت 498 عملية إرهابية في دول الاتحاد الأوروبي 424 منها وقعتها منظمات انفصالية، و55 عملية قامت بها منظمات يسارية، و18 عملية قامت بها منظمات إرهابية مختلفة، وعملية واحدة فقط نفذت من طرف مسلم في ألمانيا! أي بنسبة 0.2%.ومع ذلك فإن عدد المعتقلين المسلمين بتهمة الإرهاب وصل إلى 257 من مجموع 706 معتقلين أي بنسبة 36.4%، في حين لم يعتقل من الانفصاليين سوى 226 شخصا بنسبة 32% رغم أن نسبة عملياتهم بلغت 85.1%. ومع ذلك اعتبر التقرير أن مواجهة "الإرهاب الإسلامي تعد بمثابة أولوية" بالنسبة لدول الاتحاد.
"
355 عملية سنة 2001 عدت إرهابا 29 عملية منها فقط في منطقة الشرق الأوسط، و201 عملية في أميركا اللاتينية، ومع ذلك لم نسمع شيئا عن الإرهاب اللاتيني أو الكاثوليكي، لكننا سمعنا الكثير عن الإرهاب العربي والإسلامي
"
وهكذا تفند لغة الأرقام تهديد أوروبا من طرف ما سمي "الإرهاب الإسلامي"، لكن لغة الإعلام والسياسة لا تواكب هذا التفنيد بل تسير في اتجاه معاكس له تماما.وهذا ما يدمغ العقلانية الأوروبية والموضوعية التي ما انفكت جامعات أوروبا وعلمانيتها تتباهى بها.أما بخصوص ارتكاز "الإرهاب" ضد الأهداف الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، أي عند العرب والمسلمين فقد فندت أرقام أميركية هذه الدعوى.ففي إحصاءات لوزارة الخارجية الأميركية عن الإرهاب فيما بين سنتي 1997 و2002 اعتبرت 77 عملية سنة 2002 بمثابة عمليات إرهابية ضد أهداف أميركية 46 منها في أميركا اللاتينية، و16 عملية في الشرق الأوسط، كما وقعت 355 عملية في سنة 2001 اعتبرت بمثابة إرهاب دولي، منها على سبيل المثال 29 عملية فقط في منطقة الشرق الأوسط، و201 عملية في أميركا اللاتينية.ومع ذلك لم نسمع شيئا عن الإرهاب اللاتيني أو الكاثوليكي، لكننا سمعنا الكثير عن الإرهاب العربي أو الشرق أوسطي أو الإسلامي.
الأسباب الحقيقية للإرهاب
إن لغة الأرقام التي عرضناها سابقا -ومعظمها صادر عن جهات رسمية غربية- أكدت بما لا يدع مجالا للشك عددا من الحقائق الأساسية تتلخص فيما يلي:
- للعنف والإرهاب أسباب متعددة لكن الأفكار والديانات عموما ليست من تلك الأسباب، وإن كانت قد تتخذ مرجعية وأرضية لهما باستلهامها مرجعية وتبني الدفاع عن قضايا وهموم أتباعها.
- ليست هناك علاقة تلقائية للمدارس الدينية والتعليم الديني الإسلامي بالعمليات الانتحارية، دون الدخول في شرعية هذه العمليات، والتمييز بين المقاومة المشروعة والإرهاب.
- هناك ما يمكن تسميته "تراثا إرهابيا عالميا" نالت فيه دول ومنظمات غربية وأوروبية مختلفة قصب السبق سابقا وحاليا، ولا تمثل فيه بقية أنحاء العالم إلا قطرة من بحر وغيضا من فيض.
- بعض البلدان وخصوصا الولايات المتحدة مستهدفة بأعمال "إرهابية" في مختلف مناطق العالم، ولعل من أضعفها منطقة الشرق الأوسط، وذلك بسبب دورها العالمي وهذا ما يتطلب ارتكاز هذا الدور على مبادئ العدالة والإنصاف، واجتناب إشعار الآخرين بالإهانة والظلم. فالظلم مؤذن بالخراب حسب اصطلاح ابن خلدون، والله عز وجل -وهو القاهر فوق عباده- لم يحرم شيئا على نفسه إلا الظلم وحرمه على كافة عباده.
ومن أكبر الظلم تجاوز الحقائق التي تسفر عنها لغة الأرقام، واتهام الإسلام والمسلمين ظلما وعدوانا بعكس ما تبديه نتاجات ذوي العقول والأحلام، من مختلف المشارب والآفاق والأفهام.